بعض الأصدقاء لم يتمكن من فتح مادتي عن حسان وجميل في الموقع. أدرجها أدناه نصّا لمن شاء:
جميل حتمل الذي لوّن حياتي ومضى غير عابئ
وائل السوّاح
يتابع وائل السواح إعادة اكتشاف مرحلة السبعينات والثمانينات من تاريخ سوريا، بحثا عن دور اليسار الجديد والمعارضة السورية في تلك المرحلة، من خلال تجربته الخاصة في ذلك اليسار وفي السجن. في هذه الحلقة، يحكي عن أشخاص تعرّف عليهم في مرحلة تحوّله يساريا، فغيروا مسار حياته، بينهم الكاتب الراحل جميل حتمل.
*******
العام 1976 سيكون عاما موّارا بالحياة والحركة والمغامرة بالنسبة لي. فيه تعرّفت على من سيكونون أصدقائي بقية العمر، وسيتركون في روحي بصماتهم طويلا. أولهم كان حسّان عزت، الشاعر الجميل الذي يسكن بين الكلمات والصور، يعيش القصيدة قبل أن يكتبها، وفي أحايين كثيرة يعيشها ولا يكتبها. لا يمتّ بصلة إلى فوضى الشعراء وبوهيمية الفنانين. أنيق، نظيف ومرتّب، كما هي قصائده وكتبه. كان لديه في بيته في بستان البختيار غرفة، لا يدخلها الغبار ولا البشر، إلا نخبة من أصدقائه. حين سمح لي أول مرة بالدخول إليها، دخلنا ككاهنين بوذيين يتسللان إلى معبدهما. سحرني الجو الكئيب، النظيف المرتب. كلّ الكتب كانت مغلّفة بلاصق من النايلون الأزرق الحزين. في تلك الغرفة استمعنا إلى الشعر والموسيقى واتفقنا واختلفنا في قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة وفي النقد، قرأنا رامبو وبودلير وويتمان وأدونيس وسليم بركات، وخضنا في السياسة والفلسفة والدين. كان حسّان ليبراليا متحمسا في أفكاره الدينية والفلسفية والاجتماعية، وكنت أبدو إزاء تحرّره متزمّتا قليلا. وسيلة التنقل الخاصة بحسان كانت دراجته التي أطلق عليها اسم "روزينانتي" تيمّنا بفرس دون كيخوته. وكثيرا ما تنقلّنا عليها لزيارة صديق أوو حضور معرض رسم.
تعرّفت على حسّان في مهرجان للشعر والقصّة في جامعة دمشق. لسبب لا أفهمه، سمّى اتحاد الطلبة المهرجان باسم "مهرجان عكاظ." وكان لديّ عشرون سببا لأكره اسم، وتردّدت في المشاركة فيه، ولكن صديقي الصحفي عدنان جرجوس أقنعني. كنّا في مقهى الإيتوال قبالة مدرسة الفرانسيسكان. "ما لك وللاسم؟" سألني، "سيكون ثمّة جمهور كبير." وهائل، النادل الذي كان يمهلنا في تسديد ثمن ما نشرب، والذي كان يضع فنجان قهوتي على الطاولة، هزّ برأسه موفقا، دون أن يعرف ما القصّة، فاقتنعت. اشتركت بقصّة عنوانها "لماذا مات يوسف النجّار" ستكون عنوانا لمجموعتي القصصية الأولى بعد ذلك بسنتين. حين ألقيت قصّتي في مقصف الأزروني المركزي بجامعة دمشق، شعرت بتقبّل جميل من الحضور. كانت القصة حول مدرّس رسمٍ يعلّم أطفال قرية رسم السكاكين بد من الأزهار، فيحاول رئيس الشرطة أن يثنيه عن ذلك، وحين يفشل يقتله. بعد أن ألقيت قصتي، نهض إلى المنصة شاب أسمر نحيل، أجعد الشعر، بعينين سوداوين حالمتين يتنهد، فتخرج من صدره زفرات طويلة متقطعة، تنبئ عن حزن دفين. ألقى حسان قصيدة بعنوان "الغزال الاسكندراني والحواة." وكانت شيئا جديدا بالفعل. تركيبة الجملة الشعرية وتدفق الصور الغريبة. ولا ينبغي أن تحب شعر حسان عزت لتعترف أنه نسيج وحده في الشعر، لم يقلّد أحدا ولم يستطع أحد أن يلّده.
لجنة تحكيم القصة تألفت من القاصّين العظيمين زكريا تامر وسعيد حورانية. لجنة تحكيم الشعر تألفت من الشعراء علي الجندي ومحمد عمران وفايز خضور. يوم إعلان نتائج المسابقة، ذهبتُ إلى الإيتوال. لم أكن أرغب في حضور الاحتفال لأنني كنت واثقا من أنه لن يكون لي مكان بين الفائزين، وبين المشاركين قصّاصون معروفون، بينهم القاص الفاتن عادل حديدي. في المقهى، رأيت عدنان، صديقي الذي أقنعني أساسا بالمشاركة. قال لي: "وماذا ستخسر؟ تعال نتسلَّ!" وهزّ هائل برأسه موافقا. ذهبنا معا، وجلست في آخر القاعة. سعيد حورانية أعلن النتائج، وكانت القصة الفائزة بالمرتبة الأولى قصة "لماذا مات يوسف النجار"، وحلّ عادل حديدي ثانيا. فيما بعد توطدت علاقتي بعادل، وصرنا زبونين مداومين في مطعم الريّس قبل إغلاقه، ولكن يومها لم يتلقّ عادل النتيجة بروح رياضية. في الشعر، فاز حسّان عزت، ولم يكن فوزه مفاجأة. استلم كلّ منا هديته: علبة من الموزاييك فيها لوحة نحاسية مكتوب عليها اسم الفائز والتاريخ. خرجت من مقصف الأزروني صحبة صديقي عدنان، وكنت ثملا قليلا بالفوز، وكانت نسمات آذارية منعشة تلفح وجهينا. سمعت أحدهم ينادي اسمي: "وائل!" التفت. كان حسان، يسير صوبي مسرعا وبيده علبة الموزاييك. ابتسم وقال: "هناك خطأ في العلب. أعطوني علبتك ويبدو أن علبتي معك." فتحت العلبة فوجدت اسم حسّان عليها. ضحكنا. تبادلنا العلبتين. ولوّحت مودعا. ولكنّ حسان قال: "شو رأيك بقهوة في بيتي." اكتشفت أن بيته يبعد عن بيتي الذي أسكنه خمسين مترا فحسب. وفنجان القهوة ذاك كان مفتاحا لعالم من الثراء والمودة والصحبة الجميلة. وحين طُلبت من قبل مخابرات أمن الدولة لاحقا، وكان عليّ أن أتخفى، كتب حسّان قصيدة أسماها "مزمور العاشق واو" وأهداها لي:
كيفَ خلّفتَ وعودَ "الصالحيّة"؟
أينَ خبّأتَ زهورَ الياسمين
وتباعدتَ عن الصَحْبِ قليلاً
وعشِقتَ البندقيةْ
واستثارتك أحاديثُ الشجر
وتعابيرُ القُرُنْفُلِ
أينَ خبّأت الطفولة
أين خبَّأت العناقاتِ الطويلة؟
دمشقُ قد تمشي مع من يشاءْ
وقد تعطي جسدها لمن يشاءْ
إلاّ حُبِّها
فهو للعاشق "واو"
بعد أيام قليلة، لمحت حسّان في الجامعة، وكان برفقة شاب أشقر وسيم، حيي، لعينيه زرقة يشتهيها البحر وليديه أصابع تشتهيها الحسان، بضحكة فاتته وشقاوة أليفة. ناداني حسّان:
"اريد أن أعرفك على صديقي."
وقدّمنا واحدنا للآخر: "جميل حتمل" قال.
ومنذ أن انغلقت يدانا على أول مصافحة، ذاك المساء، اشتبكنا، جميل وأنا، في أغرب وأجمل وأهم صداقة في حياتي. لم أعرف وقتها أنني وجميل سنغدو روحا واحدة، روحا مضطربة، قلقة، متيقّظة دائما، ومتألّمة، ولكنها واحدة. كان جميل يومها، لسبب ما، لا يزال في سنته الأخيرة في الثانوية، ولكنه كان قد قرأ تشيخوف دوستويفسكي وزكريا تامر وحيدر حيدر ومحمود درويش وأدونيس ويوسف إدريس ونجيب محفوظ ولوركا وناظم حكمت وشعراء وروائيين ومفكرين آخرين لا تحضرني أسماءهم. كان شعلة من لهب تسعى على قدمين، لا يستطيع الجلوس كثيرا، وإن جلس تقدّم إلى مقدمة الكرسي، كأنه يخشى أن يرتاح. قلت له مرّة: "أنت حلمك أن تكتب قصة من صفحتين." كنت أحاول أن أغيظه. جميل كان يكتب قصصا مقتصدة في الطول، ولكنها مدهشة. ولطالما تساءلت: من أين يأتي بالفكرة.
"قال الولد لرفيقه: أترى تلك الحديقة وذلك البيت وهذه السيارة الجميلة؟ إنها جميعا لنا. أجابه صديقه: أترى ذلك البحر وتلك السماء وهذه الأشجار؟ إنها جميعا لنا." إلى هنا والحكاية عادية جدا، ولكن جميل يصعقنا بجملة النهاية، إذ يُضيف "وكان يعرف جيّدا أنه يكذب."
كنت أغار دوما من جميل، فقد كان لديه أجمل الأشياء: أحلي القصص وأفضل الأصدقاء وأوسع العلاقات وأجمل النساء! وحتى آخر نصّ كتبه في باريس، كنت أسأل نقسي: كيف استطاع أن يكتبه. على عكسنا جميعا، لم يتذبذب فنَّ جميل صعدا هبوطا. كان كلّ نص أعلى من سابقه. وحين كتب آخر مجموعة له في باريس، قصص المرض.. قصص الجنون، حين كان يعاني سكرات الموت الأخيرة، حلّق في فضاء لم يسبقه إليه أحد من الكتّاب السوريين، وتناول قضايا الموت والوحدة والانتحار، برهافة وحساسية نادرتين. يومها أيضا سألت نفسي: "من أين يأتي بهذا الصدق؟" وهو كان أصدقنا بلا استثناء. كان ينتمي إلى أولئك الذين لا يعرفون المداهنة ولا المراوغة ولا الحلول الوسط. في يوم كان يردف حسّان على متن روزينانتي، وقد خرجا من معرض للرسّام التشكيلي التجريدي الحمصي مصطفى بستنجي، حين خطر له أن يسأل حسّان:
"ما رأيك بالمعرض."
حاول حسّان أن يبدي إعجابه باللوحات، بيد أنه أحس بيدي جميل القابضتين على خصره خوف حَذَرَ السقوط عن الدرّاجة تتشنّجان، وسمعه يقول:
"توقف لو سمحت."
وحسّان الذي لم يعرف ما الحكاية، أوقف درّاجته عند الرصيف (وكان في تلك الأثناء ثمّة أرصفة في الشام)، وراح يتطلّع إلى جميل هو يبتعد خطوات عنه، ثم يستدير ويقول له قبل أن يشرد بعيدا: "أنت لست صديقي!" لم أعد أتذكر الآن إن التقينا ليلة ذاك أو في الليلة التي بعدها، على أن حسّان وجميل ما انفكّا صديقين حتى رحيل جميل المبكر.
كان جميل عليلا منذ طفولته. شيء ما في قلبه لم يكن طبيعيا. لا أدري ما هو، فلم يكن لدينا الوقت لنسأل عن أمراضنا. كنا مهوسين بالحياة، مسكونين بالبحث عن الحقيقة، ملوّثين بالثورة والقَصَص والشعر والنساء. وكان جميل قريبا من جوّ الحلقات الماركسية ورابطة العمل الشيوعي منذ البداية، وهو كان الصديق الشخصي للفنان الجميل يوسف عبدلكي وثلّة أخرى من مؤسسي رابطة العمل. كان يعتبر نفسه جزءا من الرابطة، وقد ظلّ التعبير الأصيل عن روح الرابطة الأصيل حتى رحيله، بيد أن الرفاق كانوا يرفضون أن يدخل في التنظيم بسبب مرضه. كانوا يخافون عليه من لحظة الاعتقال. وكان هو حزينا جدّا لذلك الإقٌصاء. مع يوسف عبدلكي (وكان عضوا في لجنة منطقية دمشق)، دار حوار طويل حول جميل. قلت له إن وجود جميل خارج الرابطة صعب عليه وخسارة لنا. وقلت له كم من رجل صنديد انهار تحت التعذيب وأن المرض ليس مبررا للخوف على جميل. أخيرا، قُبِل جميل في الرابطة كرفيق، وبقي فيها (أم بقيت فيه؟) حتى آخر يوم في حياته.
في 1981 اعتقل جميل لبضعة أشهر، وانهارت صحّته هناك فورا، والنظام خشي أن يموت في السجن بسبب مرضه، فأطلق سراحه، وسافر مباشرة إلى باريس للعلاج، وبقي هناك أكثر من عقد، وهو يشعر في كلّ يوم بالغربة تكبر حتى تطبق على صدره وقلبه وتضيّق شرايينه وتجعل كآبته تزيد يوما إثر يوم. لم يحبّ باريس كثيرا، ليس لأنها باريس، ولكن لأنها لم تكن دمشق. كتب لي في 1991، بعد أيام من خروجي من السجن: "كم أتمنى لو أكون هناك الآن، ولو على حافّة الموت، لو أكون وأدقّ الباب عليك أو على إبراهيم (صموئيل) أو على علي (الكردي) أو سحبان (سواح) أو... لأقول لكم اريد أن اسهر."
كان قد انفصل عن حبيبة عمره وأم ولده قبل اعتقاله بسنة، وسبّب ذلك ألما كبيرا له. لكي يحصلا على الطلاق من المحكمة الروحية الكاثوليكية، كان لا بدّ من قطع مسار شائك ومعقّد وملتوٍ. ونجوى كانت امرأة مليئة بالحياة والصخب والعاطفة. وخسارتها كانت ضربة موجعة له. حاولتُ مرّة ومرّة، وحاول كلّ الأصدقاء، أن نرأب الصدع، فما استطعنا.
في باريس عاش في شارع La rue de l'Abbé-Groult في الدائرة الخامسة عشرة. شقة مساحتها 35 مترا. وكان يعمل مراسلا لجريدة القدس العربي التي خانته كما خانت غيره أيام صاحبها عبد الباري عطوان، بمرتّب لا يكاد يسدّ رمقه. بقي أربعة عشر شهرا من دون راتب ودون أن يكلّف عطوان نفسه الاتصال به للسؤال عن صحته. "الآن، يا أبو المجد (اسمي الحركي في رابطة العمل)، سأتوقّف لكي أبحث عن كأس. فلم يعد عندي شيء، وليس معي نقود لأشتري. قد أجد جرعة كونياك. سآخذها لأزيد هذا "الفرح" الغامر الذي أنا فيه." ومن الـ 35 مترا، كان غالبا ما يذهب إلى المشفى للعلاج: صمّام، عملية، إسعاف لعضلة القلب. "كم بتّ أكره المشافي والقلوب المعطوبة وغرف العناية المشدّدة وغرف التحقيق. كم بتّ أكره هذه الوحدة القدرية التي تستبدّ بي، والتي تجعلني لا أنام، ولا أفيق – ربما." ثمّ يعود إلى الـ 35 مترا مربعا من اليأس والوحدة. "بعد ساعتين سأخرج. سأخلع قميص المرض الأصفر، وأذهب إلى الـ 35 مترا من الغبار، بيتي، ومعي دفتر جديد بيّضت عليه قصصا جديدة... كأن الكتابة حارستي حين لا حارس. أكتب وأسخر من نفسي، واقول: ما الجدوى؟ أعرف أنك تعزّيني حين تحدثّني في رسالتك الأخيرة عن كتابتي. ... أخت الكتابة، والعالم، والإخلاص، و... أخت هذه الدنيا المثقوبة، المجوّفة، الـ... تخيّل: لو لم يأتِ أمس بسّام وفادية، مع باقة ورد حمرا، لم أرَ خلال أسبوعين أحدا من الحرس القديم، باستثناء صديق العمر يوسف، وهالة التي تكبّدت حمل طفلتها الحلوة ليلى وجاءت. ولأول مرة يا أبو المجد أشعر ما معنى المرض، وما معنى أن تكون وحيدا. لا أحد يمسح عرق جبينك، ولا أحد – صباحا – يقول لك: حبيبي، صباح الخير."
الإخلاص! كان جميل قد تعرف على رالة، سيّدة جميلة من أسرة سورية عريقة. أحبها، بكلّ الجنون الخاص به. وأحبّته، كما لاحظنا جميعا، بصدق. بيد أن العلاقة تدهورت حين لم تعد رالة تتحمّل تصرفاته وحساسيته وتعلّقه المرضي بسوريا. وحين تخلّت عنه أخيرا، تزوجت أحد الرجال السوريين الذين لم يكنّ لهم ودّا ولا احتراما، شخص "يفوقني بأن معه مصاري، ومسلم، ولديه جنسية..."
علاقتي بجميل بدأت بشجار وانتهت بشجار. في أول لقاء لنا في 1976، في بيت حسّان عزّت، اختلفنا حول أوّل قصّة قرأها لي، وفي آخر لقاء لنا في باريس، 1992، تشاجرنا حول آخر قصّة قرأها لي. كنت قد غيّرتني سنوات السجن، فخففت من ثوريتي وعزّزت لدي مسألة الفرد، ودارت معظم قصصي التي كتبتها في السجن عن الإنسان الفرد، وليس عن الطبقة والمجتمع والثورة. جميل، الذي لا تغيّره ظروف، ولا أحوال، ولا غربة، ولا سفر كان لا يزال يعتقد أن الثورة القادمة هي الثورة الاشتراكية، وأن لا بديل عن تحطيم البرجوازية وإقامة دولة العمال. في إحدى عربات الميترو، اختلفنا وارتفع صوتنا. اتّهمني بالغرور وعدم الرغبة في رؤية ما حولي، واتّهمته بالتثبيت على حقبة من الماضي، لا يريد عنها حيادا. ورمَقَنَا من حولَنا: فرنسيون وآسيويون وأفارقه وعرب، فصمتنا. وحين توقف القطار في المحطّة التالية نزلت بصمتٍ مكسور، ورأيت إليه وهو يحدّق بي من زجاج نافذة العربة، وهو يبتعد مع القطار. "أتذكّر الآن نزولك من المترو ووداعنا الصامت. كأن عليّ أن أعيش هذه الوداعات مسلسلا لا ينتهي، ولا بطولات فيه."
يقول الكاتب عبد الرحمن منيف، في تقديمه للأعمال الكاملة لجميل التي طبعت بعد رحيله: “جميل أميرٌ للحزن، حزنه وحزن الآخرين، نبرة الصوت، نظرات العيون، وذلك الشجن الذي يلازمه كظله، ما قدمه من كتابة شهادة على العصر العربي الصعب، ولو أسعفه الحب؛ لربما استطاع أن يعيش فترة إضافية وأن يكتب، لكنّ الرياح سارت باتجاه آخر، مات جميل، وهو ينتظر الطائر الأزرق، ويتوقع وصوله، ولعل الطائر لا يتأخر أكثر مما فعل، لأن الكثيرين ينتظرون أيضًا”.
عاد جميل إلى الشام في صندوق مغلق. كنا في انتظاره جميعا. كان حزن شفيف يغلفنا جميعا بأسىً وفجيعة وغصّة في الحلق. وفي جنازته، طفنا به كصوفيين يطوفون حول سرّ الصوفية.
وحين خرجت من دمشق في صيف 2012، حملت حقيبة واحدة، فيها بعض الملابس وبعض الكتب، ورسائل جميل حتمل، ومسودّة روايته الوحيدة التي كتبها ولم ترَ طريقها إلى النشر، لأنه رحل قبل أن يراجعها. لم أحمل قصصي التي لا تزال إلى اليوم مركونة في درج ما من بيتي في دمشق، ولكنني حملت رسائله، كأنني أرفض أن أعترف أن ما مضى قد مضى، وأن جميل قد مات فعلا.