تطور الإنسان من بين سائر الكائنات هو ربما من أسخن مواضيع نظرية التطور جدلاً وذلك لاعتقادنا بتفردنا المطلق على كل أشكال الحياة كما عُلّمنا منذ نعومة أظفارنا. لن يختلف إثنان أن الخاصية التي نعتقد أنها تميزنا بالدرجة الأولى على الكائنات الأخرى هي دماغنا الضخم التي من خلاله نفكر ونعقل -وإن كان لا يمكننا الجزم بعدم امتلاك أي كائن آخر لعقل مفكر، إلا أن هناك فرق شاسع في سعة الإدراك والتعاطي مع الطبيعة بين الإنسان والكائنات الأخرى. يمكننا القول أن تطور الدماغ البشري إلى شكله الحالي الذي مكّنه من امتلاك سلوك بالغ التعقيد وقدرات عقلية عليا فريدة من نوعها تصل به إلى فهم الطبيعة نفسها يعتبر قفزة هائلة ومرحلة مفصلية في مسيرة التطور الطبيعي كحال تطور الكائنات حقيقية النواة من قرينتها بدائية النواة، وتطوير قدرة الاستتباب أو التوازن الداخلي (Homeostasis)، وخروج الكائنات إلى البر وتأقلمها فيه.
تطور الدماغ بشكل عام ودماغ الإنسان على وجه الخصوص أشغل العلماء الطبيعيين والفلاسفة منذ عرفنا حقيقة التطور الطبيعي، ولا يزال محل نقاش وإن أشبع علماء الأحياء هذا الموضوع بحثاً وتنظيراً.
بدايةً يجب علينا أن نعي أن طائفة الثدييات لديها أكثر الأمخاخ (Cerebrum) تطوراً من بين الطوائف الأخرى، ورتبة الرئيسيات (Primate) بشكل خاص -التي ينتمي إليها البشر بجميع أنواعهم- تملك أدمغة قد تبلغ سعتها ضعفي السعة المتوقعة من كائن ثديي بنفس الحجم، لذا يمكننا أن نستنتج مبدئياً أنه لو خرج نوع من الكائنات بدماغ ضخم بالمقارنة بحجمه وقدرات عقلية عليا فائقة فإنه على الأغلب سيخرج من رتبة الرئيسيات. وبالفعل خرج الإنسان المعاصر بدماغ تفوق سعته خمسة أضعاف ما هو متوقع من كائن ثديي بنفس الحجم (١)
تجدر الملاحظة أن حجم أو وزن الدماغ بحد ذاته لا يعني بالضرورة زيادة ذكاء الكائن بشكل كبير وتطوير وظائفه العليا، فالحيتان قد يصل حجم أدمغتها إلى ٨ كيلوغرام والفيلة ٥ كيلوغرام في حين متوسط وزن دماغ الإنسان المعاصر (Homo Sapiens) يقارب ١،٣ كيلوغرام (٢)، بل وحتى في جنس البشر (Homo genus) لم يكن الإنسان المعاصر صاحب أكبر دماغ، فقد كان يفوقه نوع النياندرثال (Homo neanderthalensis) بمتوسط وزن دماغ ١،٥ كيلوغرام (٣). أيضاً المعيار الأهم ليس بالضرورة نسبة وزن الدماغ من الوزن الكلي للكائن فهنا ستغلب أنواع من النمل الكائنات الأخرى حيث قد تصل نسبة وزن دماغها البدائي ١٥٪ من وزنها الكلي. (٤)
يعتقد كثير من العلماء أن العامل الأهم في تطور وظائف الدماغ العليا وتعقيد السلوك هو تركيب الدماغ نفسه وأحجام الأجزاء المختلفة منه وليس فقط حجمه وسعته الإجمالية، ويتضح ذلك جلياً في مفارقة إنسان الفلوريسينسيس (Homo floresiensis) والذي انقرض قبل حوالي ١٢ ألف عام. المفارقة تكمن في أن حجم دماغ هذا النوع من البشر يوازي حجم دماغ الشمبانزي (Pan troglodytes) -في حدود ٤٠٠ سنتيمتر مكعب- ومع ذلك كان يتميز بسلوك أعقد مما هو موجود عند الشمبانزي وقريب جداً من سلوك البشر الأوائل من استخدام الأدوات والتعامل مع النار وغير ذلك من النشاطات المعقدة. (٥)
*معاذ الدهيشي
المصادر:
١
Armstrong, E. (1983). Relative brain size and metabolism in mammals.Science, 220(4603), 1302-1304.
٢
Kappelman, J. (1996). The evolution of body mass and relative brain size in fossil hominids. Journal of Human Evolution, 30(3), 243-276.
٣
Pearce, E., Stringer, C., & Dunbar, R. I. M. (2013). New insights into differences in brain organization between Neanderthals and anatomically modern humans. Proceedings of the Royal Society B: Biological Sciences,280(1758).
٤
Seid, M. A., Castillo, A., & Wcislo, W. T. (2011). The allometry of brain miniaturization in ants. Brain, Behavior and Evolution, 77(1), 5-13.
٥
Conroy, G. C., & Smith, R. J. (2007). The size of scalable brain components in the human evolutionary lineage: With a comment on the paradox of "Homo floresiensis". HOMO-Journal of Comparative Human Biology, 58(1), 1-12.
# ترقبوا الجزء الثاني حيث ندلف في تفاصيل تطور أدمغتنا منذ أزمنة البشر الأوائل وحتى الإنسان المعاصر