الإنسانية



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

الإنسانية

الإنسانية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
الإنسانية

الارتقاء الى المستوى الإنساني


  • إرسال موضوع جديد
  • إرسال مساهمة في موضوع

الأفكار والأديان والفيروسات. لماذا تنتشر فكرة وتموت أخرى؟

أبو عماد
أبو عماد
Admin


عدد المساهمات : 796
تاريخ التسجيل : 20/11/2012
العمر : 68
الموقع : damas

الأفكار والأديان والفيروسات. لماذا تنتشر فكرة وتموت أخرى؟  Empty الأفكار والأديان والفيروسات. لماذا تنتشر فكرة وتموت أخرى؟

مُساهمة  أبو عماد الأربعاء 27 أكتوبر 2021 - 14:24

الفكرة الأساسية لفيلم "إنسبشن" هي أنك تستطيع أن تغرس فكرة في رأس إنسان وتستطيع أن تقنعه أنها فكرته هو. فالأفكار مثل الفيروسات عنيدة ومعدية، ولكنها مثل الفيروسات أيضاً تحتاج إلى ثغرة تتسلل منها إلى وعي الإنسان. ومقارنة الفكرة بالفيروس لا علاقة لها هنا بنفع أو ضرر هذه الفكرة ولكن فقط بطريقة انتشارها وتحورها. هناك فكرة ثانوية قد تغير زاوية رؤيتك لقضية ما، ولكن هناك فكرة جوهرية قد تسطو على دماغ الإنسان كلياً وتغير طريقة تفكيره بشكل كامل. وكانت الثغرة التي وجدها بطل الفيلم في وعي الشخص الذي يريد أن يغرس فيه الفكرة هي شعوره بالذنب تجاه أبيه الذي مات وهو غير راض عنه. ومع مرور الوقت سطت الفكرة على وعي صاحبها الأصلي لأن عقدة الذنب كانت ثغرة في وعيه هو أيضاً. هكذا تنشأ الأديان والأفكار الكبرى، وهكذا يسقط الأنبياء والمفكرون ضحايا لفلسفاتهم الطوباوية...  
الأفكار الجوهرية التي غيرت التاريخ جاءت ببشارة وتحذير ورؤية للمستقبل وخطة للنجاة. كلها غزت عقل الإنسان بطريقة الفيروس الذي ينتظر ثغرة يدخل منها لوعيه. المسيحية والإسلام والتنوير والماركسية والفاشية هي أفكار غيرت التاريخ، وكلها أفكار يوتوبيا تبشر بالخلاص وتقدم نظرة متكاملة للعالم ومشاكله وتقدم حلولا جذرية لمشاكل البشرية. يوتوبيا المسيحية هي الخلاص، والحل هو الإيمان بالمسيح كمخلص. يوتوبيا الإسلام هي إخراج الناس من الظلمات إلى نور وتحقيق السلام عن طريق الاستسلام لإرادة الله والخضوع لحكم الشريعة. يوتوبيا التنوير كانت تحرير الإنسان من وصاية وسلطة التفكير الديني السحري ومن ظواهر الطبيعة القاسية عن طريق العقلانية والتحكم في الطبيعة. يوتوبيا الماركسية كانت العدالة الاجتماعية ووسيلة تحقيقها هي امتلاك العمال لأدوات الإنتاج. ويوتوبيا الفاشية كانت سمو العرق الآري وأحقيته بأستاذية العالم والوسيلة للوصول لتلك الأستاذية كانت الحرب والقضاء على كل المنافسين من حلفاء وشيوعيين وليبراليين ويهود.
لو نظرت إلى الثغرة التي دخلت منها كل هذه الأفكار إلى عقول البشر ستجد أن غرائز الإنسان ومشاعره كانت هي المدخل دائماً، أحيانا يكون الخوف وأحيانا يكون الحب هو الثغرة التي يدخل منها فيروس الفكرة الجديدة: الخوف من ظواهر الطبيعة أو الخوف من طبيعة الإنسان الداخلية من مشاعر وغرائز، الخوف من الآخر أو الخوف من الله، أو حب المعرفة وحب الخير والعدل أو حب الوطن أو غريزة السلطة.
ولكن العالم كان ولا يزال مليء بالأفكار، فلماذا تنتشر فكرة كالنار في الهشيم بينما تموت أخرى بسرعة أو تظل في محيطها المحلي؟ أولاً لابد أن تكون الفكرة قوية ولابد أن يحملها حلم كبير يبشر بإنشاء مدينة فاضلة، والأهم من ذلك أن الفكرة تحتاج الوقت المناسب والظروف المناسبة لتنشأ ولتنتشر. وأيضاً لا تستطيع فكرة أن تغزو العالم إلا إذا تبنتها سلطة سياسية أو اقتصادية أو مجتمعية كبيرة وتولت مهمة نشرها بين الناس.
المسيحية ظلت ثلاثة قرون أقلية صغيرة تعيش على هامش الأمبراطورية الرومانية ولكن بعد أن اعترف بها قسطنطين كأحد الاديان الرسمية للإمبراطورية انتشرت بشكل سريع. ونفس الشيء حدث مع الإسلام، ففي السنين الأولى التي دعا فيها محمد لرسالته بالحكمة والموعظة الحسنة لم يؤمن إلا عدد قليل برسالته، ولكن حين عمل تحالفات عسكرية مع قبائل مسلحة وبعد انتصاره في عدة معارك بدأت الجموع تعتنق الإسلام لأنهم وجدوا أنه سيكون الحصان الرابح في الجزيرة العربية. ولكني أعتبر عبد الملك بن مروان هو المؤسس الحقيقي للإمبراطورية الإسلامية، فهو الذي أعاد صياغة الإسلام كدين يدعم السلطة ويعطي هوية للامبراطورية الواسعة الجديدة.
ظهرت بعد ذلك فكرة إله سبينوزا الذي كان يرى الله في الطبيعة فلا سماء ولا جنة ولا نار ولا كتب مقدسة. وفكرة أن الله هو كل شيء هي فكرة فلسفية أرقى من فكرة إله الأديان التي تجعل من الله مجرد شيخ قبيله يتحيز لفريق على حساب كل القبائل الأخرى. ومع ذلك لم تلق فكرة إله سبينوزا رواجا كبيراً بين الناس أولاً لأنه إله بلا طقوس ولا أعياد، وبلا جنة ونار ولا يغازل غرائز البشر خاصة الخوف والشعور بالذنب وحب السلطة. فالبشر يريدون السماء أن تظل بعيدة وغامضة، ولكنهم يريدونها ايضاً أن تتكلم وتواسي وتنحاز لهم وتهددهم وتسحق أعدائهم. لذلك ففكرة إله سبينوزا ليست مجدية سياسياً كي يتبناها حاكم أو امبراطور وكي تدافع عنها جيوش.  
حتى حركة التنوير كانت بحاجة لقوى سياسية ومجتمعية كي تنتشر، فقد تبنى بعض أفكارها فريدريش الكبير ملك بروسيا وجوزيف الثاني امبراطور النمسا وحكام السويد والدنمارك والبرتغال في القرن الثامن عشر. كل ذلك كان قبل أن تندلع الثورة الفرنسية التي كانت ترتكز على أفكار التنوير. ولكن الغريب أن القائد العسكري نابليون بونابرت هو الذي حمل التنوير كواقع سياسي إلى أوروبا، لأنه وجد في أفكار التنوير دعماً لسلطته السياسية. فكان بونابرت للتنوير مثلما كان قسطنطين للمسيحية وعبد الملك للإسلام.
الاتحاد السوفيتي والصين تبنوا أفكار ماركس وحولوها إلى دين سياسي وخلقوا بها واقعاً سياسياً جديدا ربما يرفضه ماركس نفسه، وهتلر وموسوليني تبنوا الفاشية وتسببوا في كوارث لأوطانهم باسم الوطنية.
مَن كان أقوى إذاً؟ الفكرة أم الواقع السياسي والمجتمعي الذي أنتجها أو الذي ساهم في نشرها؟ ربما تجيب فلسفة الدياليكتيك أو الجدل على هذا السؤال: هناك قوة دفع ذاتي للأفكار وللواقع. أنظر إلى هاتفك المحمول أو فرشاة أسنانك أو أي شيء في بيتك وستجد أن أصله هو فكرة ما توافقت مع رغبة ما فتم تجسيدها حتى صارت واقعاً. وفتش خلف كل فكرة غيرت التاريخ وستجد خلفها بيئة وواقع أنتجوها وساعدوا على بروزها. ثم ارجع إلى كل فكرة مرة أخرى وستجد أنها تطورت عبر التاريخ ونتج عنها نسخ مختلفة مثل تحورات الفيروس.
فالمسيحية التي ذهبت إلى روما تأثرت بفكرة مجمع الآلهة وأنتجت فكرة الثالوث، والمسيحية التي عاشت تحت وطأة الإسلام في الشرق أنتجت نسخة سلطوية لا تختلف عن الإسلام إلا في رفض العنف. والمسيحية التي عاشت أزمة أوروبا في القرون الوسطى انجرفت في مشروع الحملات الصليبية ومحاكم التفتيش، وظلم الكنيسة الكاثوليكية للشعوب والنساء والمفكرين أنتج حركة باطنية متصوفة وأنتج فكرة الإصلاح الديني كثورة مضادة، وتصادم المسيحية مع حركة التنوير والفلسفة أنتج المجمع الفاتيكاني الثاني والتصالح مع العلمانية، وتلاقح المسيحية مع الماركسية أنتج لاهوت التحرير. ومع ذلك تجد اليوم جماعات مسيحية متطرفة في أمريكا وأفريقيا تريد العودة لنسخة القرون الوسطى من المسيحية لأنها تتناسب مع عنصريتهم أو مع مشروعهم الاستعماري الجديد. فالفكرة وحدها لا تكفي إذا لم تتوافق مع الواقع ومع رغبات وطبيعة من يعتنقوها.
والإسلام نتج في بيئة قبلية بها حرب وغزوات فاستثمر كل ذلك في بداياته، ثم صار جزءً من مشروع استعماري كبير لخدمة مصالح الأمويين والعباسيين والفاطميين والصفويين والعثمانيين وهكذا، ومع ذلك نتجت عنه نسخ أخرى مثل التصوف وفرق مثل اخوان الصفا والدروز وفلسفات عقلانية كالمعتزلة وابن سينا وابن رشد كثورة مضادة ضد عبادة النص، وقد حدث ذلك حين خرج الإسلام من بيئته الصحراوية وتلاقح مع شعوب وثقافات أخرى، وقد تأقلم الإسلام مثل الفيروس مع بيئته الجديدة في بغداد والأندلس ومصر وافريقيا واندونيسيا والهند وامتزج بثقافات هذه الشعوب فغيّرها وغيّرته. ولكن الشيء الوحيد الذي ستجده في كل البلاد الإسلامية بنفس الصورة ونفس الأفكار هو الإسلام السياسي والإسلام السلفي لأن مشروعهما هو إلغاء الزمن ورفض التطور وإعادة النسخة الأولى من الإسلام إلى الحياة.  
نفس هذا الانشطار حدث مع الماركسية أيضاً، فالاتحاد السوفيتي والصين لم يكونا القوتين الوحيدتين اللتان تبنت بعض أفكار الماركسية، ولكن الحزب الاشتراكي الديمقراطي وهو أقدم حزب ديمقراطي في ألمانيا أخذ فكرة العدالة الاجتماعية من الماركسية ومزجها مع فكرة السوق الحر وأنتج أطروحة التوليف بين الشيوعية والرأسمالية. ونفس الشيء حدث في الدول الاسكندنافية وبعض دول أمريكا اللاتينية.
حتى حركة التنوير نفسها خرجت منها بعض الأفكار المشوهة التي ظنت أن العقلانية والسيطرة على الطبيعة تجعل من الإنسان إلهاً له الحق في استعمار الشعوب الغير متنورة وقهرها ونهب ثرواتها. وفي كتابهما "جدل التنوير" ينتقد الفيلسوفان تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر التنوير من هذه الزاوية ويتساءلان في عام ١٩٤٤ وسط ويلات الحرب العالمية الثانية وبعد سماعهما بالهولوكوست: لماذا سقطت البشرية في هذه الهمجية بعد كل أفكار التنوير والحداثة؟
أدورنو وهوركهايمر كانا تنويريان من الطراز الأول، ولاقى نقدهما للتنوير حفاوة واسعة في أوساط التنويريين، لأن التنوير ليس ديناً وليس لديه عقيدة الولاء والبراء، ولا يحكم على منتقديه بالموت كما فعلت الأديان ولا بالحبس في معسكرات التعذيب كما فعلت الشيوعية والنازية، لأن التنوير تجربة بشرية تحتمل الصواب والخطأ وتحتاج كلاهما لتتطور. التنوير يؤمن بتطور الوعي عن طريق النقد المستمر لكل الأطروحات بما فيها التنوير نفسه. التنوير هو فيروس واعي بذاته وبضرورة تطوره.
وهنا لب القضية. نعم كل فكرة تتطور وتتحور وتتأقلم وقد تنتج نظريتها المضادة بنفسها، ولكن المهم هو: ما هي الفكرة الاصلية وما هي شرعيتها وما هي درجة مرونتها وقدرتها على التأقلم وهل يمكن الرجوع إليها كمرجعية، وهل تصلح للتوليف مع نظرتها المضادة؟ فكرة الفاشية هي التفوق العرقي وامتلاك الحقيقة المطلقة والتعالي فوق النقد والتطور، هي فيروس مثل الكوليرا لا يسمح لمن يحمله أن يعش طويلاً، لذلك انهزمت الفكرة دون أن تنتج نظريتها المضادة من داخلها. أما فكرة التنوير الأصلية فهي النقد وليست الإيمان بحقيقة مطلقة، كما أن التنوير يرفض التماهي مع فكرة ما لأن هذه لا يسمح بنقدها، وبالتالي فنقد أدورنو وهوركهايمر للتنوير جزء لا يتجزأ من التنوير، وكذلك نقد هابرماس وآخرين لهوركهايمر وأدورنو هو جزء من التنوير، لأن التنوير مثل العلم لا يقف عند حد ويحتاج دائماً إلى شك ونقد ودحض وتطوير نظريات جديدة...
المضحك هو حين يستخدم بعض المتدينين نقد أدورنو وهوركهايمر للتنوير وللعقل البشري لإثبات أن الدين هو الثابت الوحيد في معادلة الحقيقة. وهذا هو الفرق بين الدين والتنوير: التنوير يحتفي بمن ينتقدون فرضيات التنوير نفسها لأن التنوير نهر يجري ويجدد نفسه بنفسه، أما رجال الدين وكثير من المتدينيين فيردون على النقد بالتشنج والعاطفة وأحياناً بالأسلحة النارية، لأنهم يظنون أن البِركة الآسنة التي يحرسونها هي بداية الحكمة ومنتهى الحقيقة وأن كل من يقترب ليلقي فيها حجراً إنما يريد تلويث هذه الحقيقة. ومشكلة هؤلاء أنهم وواقعهم وأحلامهم مجرد نتيجة لفكرة قديمة عاندت التطور. وبالتالي فواقعهم ليس واقعاً بل نتيجة لواقع غيرهم، وحلمهم ليس حلمهم بل مجرد فكرة غرسها أحدهم في رؤوسهم مستغلاً ثغرة في وعيهم اسمها الجهل وعن طريق كذبة اسمها ان رجلا واحدا يستطيع حل مشاكل العالم كله وهو يحتسي فنجاناً من القهوة...
Hamed Abdel-Samad
  • إرسال موضوع جديد
  • إرسال مساهمة في موضوع

الوقت/التاريخ الآن هو الخميس 9 مايو 2024 - 15:30